أحسنت ظنك بالأيام إذ حَسنُت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فأغتررت بها *** وعند صفو الليالي يحدث الكدر
بعد أن أكملت دراستي الثانوية.. تقدمت بأوراقي للالتحاق بالجامعة، ولكن كان هناك أمر جديد، فقد تقدم لخطبتي شاب يدرس في أمريكا.. وتمت الموافقة.
* لابدّ من السفر إلى بلاد الغربة.. فرحت بذلك فرحاً عظيماً. سأعيش في أمريكا.
جل ما يؤرقني.. كيف بهذه السرعة تنازل عني أهلي بل كيف وافقوا على الغربة الطويلة خاصةً أنهم لا يعرفون الرجل من قبل.. وأنا لا أزال في هذا السن..
تمتعت بشهر العسل كما يقولون.. وإستقريت في منزلنا الجميل في أمريكا.
مرت الأيام حلوة وجميلة.. شاهدت معظم المناطق في أمريكا.. كان زوجي يحرص على أن أشاهد كل شيء..
وحتى يكون لدي ثقافة عن كل شيء..
لكن أيام الصفاء لم تدُم طويلاً.. كنا حسب تصوري الآن.. في مرحلة مراهقة عقلية.. فقد بدأت حركة المد والجزر في حياتنا.
كنا مهملين في كل شيء حتى في أداء الصلاة.. الشيء الوحيد الذي كنا نحرص عليه أن يكون لدينا ثقافة عن كل شيء..
وإمتد خلافنا فهو يقضي معظم وقته خارج المنزل.. خاصةً في الليل..
لم نرزق خلال تلك السنوات الثلاث بمولود.. لعل هذا ساعد على إتساع حدة الخلاف بيننا أصبحنا نصل أحياناً إلى حافة النهاية، نهاية حياتنا الزوجية.
استمرت هذه الحالة..
عندما عدنا لزيارة الوطن، لحظ أهلي الضعف والإرهاق علي وقررت أن أصارح والدتي بكل شيء..
بدورها نقلت الصورة كاملة إلى والدي.
أخذني أبي جانباً.. سألني أسئلة كثيرة ودقيقة كلها تدور حول زوجي ومعاملته لي..
وأخيراً مدى إستقامته.
بعد مهلة منحنى إياها والدي للتفكير.. طلبت الطلاق.. كنت أتوقع أن يكون الأمر سهلاً.. خاصةً إننا اتفقنا على الطلاق مرات عديدة في أمريكا ولكن زوجي رفض الطلاق إلا بشروط كثيرة.
من أبسطها رد المهر كاملاً، وبعد أخذ وردْ إنتهت الأيام المزعجة، ومما زاد كراهيتي له طلباته عند الطلاق، على الرغم من أنني ساندته في دراسته، ودفعت له من مبالغ كانت معي، بل إن مرتبي كاملاً ثلاث سنوات كان بيده.
على أية حال دُفع له ما أراد، ودُفع لي ما أردت.
عدت لحياتي القديمة وتقدمت إلى الجامعة، وأبديت رغبة في الإنضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية، وذلك لإجادتي لها من خلال السنوات التي عشتها في الغربة.
ولكن شاء الله أن أقابل إحدى زميلاتي في المرحلة الثانوية، وبعد السلام الحار والسؤال الطويل أخبرتها أنني أحمل أوراقي للإنضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية.
زميلتي لم يبق على تخرجها سوى عام دراسي واحد، وتدرس في قسم الدراسات الإسلامية.
من خلال وقفتنا البسيطة إستطاعت أن تقنعي بالإنضمام إلى قسم الدراسات الإسلامية، فهناك كما ذكرت لي المعلومات التي ستستفيدين منها، كما أنك ستتعرفين على جميع طالبات القسم بحكم معرفتي لهن، وهناك ما يرضيك من النشاطات اللامنهجية.. من محاضرات وندوات.
وهذا الجانب اللامنهجي.. أعادني إلى مرحلة الطفولة حيث كنت أحب تلك النشاطات.
وتوكلت على الله كما قالت لي: لا تترددي.
بسرعة كبيرة لم أكن أتوقعها.. أصبحت عضوة نشطة في هذا القسم، وأصبحت أشارك في إعداد الندوات وفي ترتيبها، كما أن المجموعة التي كنت معها يطغى عليها جانب المرح، وهذا ما فقدته منذ ثلاث سنوات.
رجعت لي صحتي، وعادت الحياة تدب في عيني، كما يحلو لأمي أن تقول لي.
لا وقت فراغ لدي كما يقال..
فأنا أعد بحثاً، أو أراجع مقرراتي الدراسية، وأحياناً أقوم بالتحضير لإلقاء محاضرة على زميلاتي لمدة عشر دقائق.
أصبحت لدي همة كبيرة وعزيمة صادقة، فالمجتمع الذي أعيش فيه جعلني لا أنسى الفريضة، بل تعداه إلى التطوع في النوافل من صلاة وصيام.. حمدت الله أن يسر لي الدخول إلى هذا القسم.. حيث الرفقة الصالحة.
قررت مع مجموعة من زميلاتي أن نحفظ القرآن.
كان قراراً بالنسبة لي يعني أنني مقبلة على مرحلة جديدة، وبدأنا في حفظ القرآن، كنت متخوفة في البداية أنني لن أستمر، ولكن الله يسر لي الإستمرار وأعانني على الحفظ بدون مشقة، كما أنني بدأت إستدرك ما فاتني فقررت التركيز على كتب العقيدة والفقه.
سبحان الله عندما سافرت لأمريكا كنت أعتقد أنني في قمة السعادة، ولكنني عرفت أن البعد عن الله ليس فيه سعادة مطلقة، وإن كان شكل السعادة يلوح.
إمتد نشاطي إلى بيتنا، فبدأت أختي تحفظ القرآن معي، وخصصت جزءاً من وقتي لكي أقرأ على والدتي ما يفيدها، وخاصةً الأحكام المتعلقة بالنساء.
الحمد لله كثرت وتنوعت الأشرطة الإسلامية في بيتنا.. لا أذهب لزيارة أحد إلا ومعي مجموعة منها على شكل هدية، لم أضع مناسبة دون فائدة.
تغيرت حياتي تماماً، وبدأت انظر إلى الدنيا بمنظار جديد، وأدركت أنها دار ممر، وليست دار مقر.
لم يكدر صفو حياتي سوى أن زوجي السابق عاد من أمريكا بعد أن أنهى دراسته.
وزارتنا والدته تطلب الصفح ونسيان الماضي والعودة إلى زوجي السابق، فقبلت رأسها وقلت لها إنني نسيت الماضي كله.. وعفوت رجاء أن يعفو الله عنه.
رفضت طلبها ولكنني ودعتها ولم أنس أن أرسل له هدية عبارة عن مجموعة من الأشرطة تحث على التوبة ومحاسبة النفس، ومن ضمن ما ذكرت لها ألا وقت لدي سوى التفرغ الكامل لدراستي.
نسيت أن أذكر لكم أنه تقدم لخطبتي الكثيرون، وكان أهمهم بالنسبة لي أخ لإحدى زميلاتي..
رفضت وأخبرتها إنني عاهدت الله أن لا أتزوج حتى أحفظ القرآن كاملا، وحاولت أن تقنعي لكن أخبرتها أن هذه هي آخر سنة دراسية لنا في الجامعة، وكذلك آخر سنة لأكمل حفظ القرآن.
سكتت ولم ترد عليّ..
بعد عام دراسي كامل أنهيت دراستي الجامعية، وكنت أطمح لأن أعمل معيدة في الجامعة ولكن شاء الله غير ذلك.
عُينتُ في مدرسة قريبة من منزلنا.. وإستمر نشاطي اللامنهجي، فوضعت جدولاً للمحاضرات تعده الطالبات، كما أنني جعلت هناك نشاطاً لحفظ القرآن.
سارت الأمور في المدرسة بشكل مفرح وكأننا أسرة واحدة.
وفي مساء ذلك اليوم..
زارتني زميلتي وأخبرتني أنني وعدتها بالزواج بعد حفظ القرآن.
والآن لا عذر لدي.
وافقت وتم كل شيء حسب السنة، لا إسراف ولا تبذير.
نِعمَ الرجل.. خُلق ودين وقيام ليل.
لا تسألوني كيف عشت معه، كأننا ننتظر بعضنا طوال هذه السنين.
قال لي إن الذي جعله يصر على خطبتي هو حرصي على حفظ القرآن.
الحمد لله مغير الأحوال.. من أمريكا وثقافة كل شيء إلى حفظ القرآن..
الحمد لله الذي أدركتني رحمته قبل الفوات...
الكاتب: عبدالملك القاسم.
المصدر: موقع رسالة المرأة.